فصل: فصل: (في تعريف الإمام عليهم العرفاء):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في الْفَرْقِ الْمُعْتَبَرُ فِي أَبْدَانِهِمْ]:

وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي أَبْدَانِهِمْ أهل الذمة، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي شُعُورِهِمْ.
وَالثَّانِي: فِي أَجْسَادِهِمْ.
فَأَمَّا الشُّعُورُ فَيُمَيَّزُونَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْحَذِفُوا فِي مُقَدَّمِ رُءُوسِهِمْ عِرَاضًا تُخَالِفُ شَوَابِيرَ الْأَشْرَافِ.
وَالثَّانِي: لَا يَفْرُقُوا شُعُورَهُمْ فِي رُءُوسِهِمْ، وَيُرْسِلُونَهَا ذَوَائِبَ: لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا فِي أَجْسَادِهِمْ، فَهُوَ أَنْ تُطْبَعَ خَوَاتِيمُ الرَّصَاصِ مَشْدُودَةً فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ رِقَابِهِمْ، وَهُوَ أَوْلَى: لِأَنَّهُ أَذَلُّ، وَإِنَّمَا أُخِذُوا بِالتَّمَيُّزِ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِنْدَ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، فَإِذَا تَجَرَّدُوا فِيهَا مِنْ ثِيَابِهِمْ، وَقَدِ اخْتِيرَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَفِي أَيْدِيهِمْ جَلْجَلٌ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا وُجِدُوا مَوْتَى، لِيُعْرَفُوا، فَيُدْفَعُوا إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، فَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَيُصَلُّوا عَلَيْهِمْ، وَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيَّزُوا بِمِيسَمٍ وَلَا وَسْمٍ: لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَغَيْرُ مَأْثُورٍ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي أَبْدَانِهِمْ إِمَّا بِالشُّعُورِ أَوْ بِخَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ الْمَطْبُوعَةِ جَازَ، لِوُقُوعِ التَّمْيِيزِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى: لِأَنَّهُ أَظْهَرُ. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَعْرِضْ لِتَحْذِيفِ شُعُورِهِنَّ، وَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَرْقِ وَالذَّوَائِبِ فِي الْحَمَّامَاتِ دُونَ مَنَازِلِهِنَّ، وَهُنَّ فِي طَابَعِ خَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ إِذَا خَرَجْنَ كَالرِّجَالِ.

.فصل: [في الْفَرْقِ الْمُعْتَبَرُ فِي مَرَاكِبِهِمْ]:

فَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَرَاكِبِهِمْ أهل الذمة فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي جِنْسِ الْمَرْكُوبِ.
وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْمَرْكُوبِ.
فَأَمَّا جِنْسُ الْمَرْكُوبِ، فَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِتَاقًا، وَهِجَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 165] فَأَخْبَرَ بِإِعْدَادِهَا لِأَوْلِيَائِهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْغَنِيمَةَ، وَهُمُ الْمَغْنُومُونَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرُوا بِهَا غَانِمِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: الْخَيْلُ ظُهُورُهَا عِزٌّ وَبُطُونُهَا كَنْزٌ. وَأَمَّا صِفَةُ الْمَرْكُوبِ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأُكُفِ عُرْضًا لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالرَّصَاصِ، وَأَنْ يُظْهِرُوا مَنَاطِقَهُمْ، وَيَجُزُّوا نَوَاصِيَهُمْ، وَيَرْكَبُوا الْأُكُفِ عُرْضًا، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي لَبُوسِهِمْ. فَأَمَّا الْخَتْمُ بِالرَّصَاصِ فِي رِقَابِهِمْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إِظْهَارُ مَنَاطِقِهِمْ، فَهُوَ شَدُّ الزُّنَّارِ فِي أَوْسَاطِهِمْ، فَوْقَ ثِيَابِهِمْ، وَأَمَّا جَزُّ نَوَاصِيهِمْ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْذِيفِهِمْ فِي مُقَدَّمِ رُءُوسِهِمْ، وَأَمَّا رُكُوبُ الْأُكُفِ عُرْضًا فَهُوَ أَنْ تَكُونَ رِجْلَا الرَّاكِبِ إِلَى جَانِبٍ، وَظَهْرُهُ إِلَى جَانِبٍ، فَإِنَّ تَجَاوُزَ الْأُكُفَ إِلَى ضِدِّهِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ إِلَى السُّرُوجِ بِمَا تَمَيَّزَ مِنْ سُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ رُكُبُهُمْ فِيهَا خَشَبًا، وَلَمْ تَكُنْ حَدِيدًا، وَيُمْنَعُونَ مَنْ تَخَتُّمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّطَاوُلِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَلَوْ وُسِمَتْ بِغَالُهُمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَمَّا لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَوْلَى.

.مسألة: شرط بعقد الذمة معهم أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسْجِدَا الْمُسْلِمِينَ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَدْخُلُوا مَسْجِدًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَهُمْ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسْجِدَ الْمُسْلِمِينَ حكم دخوله لأهل الذمة مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ، وَإِنْ أُغْفِلَ شَرْطُهُ عَلَيْهِمْ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ لِأَكْلٍ وَمَنَامٍ، لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْذَالِهِمْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُسْلِمُ: لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ دِينًا، وَالْمُشْرِكَ يَرَى اسْتِبْذَالَهُ دِينًا. وَأَمَّا دُخُولُهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى مُسْلِمٍ، فَيَجُوزُ بِإِذْنٍ وَيُمْنَعُونَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذَنٍ. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6]. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الدُّخُولِ بَعْدَ الْإِذْنِ. فَإِنْ قَدِمَتْ وُفُودُ الْمُشْرِكِينَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ. فَإِنْ خِيفَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ، وَإِنْ أُمِنَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُهُ نُظِرَ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَرْجُ إِسْلَامَهُمْ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ صِيَانَةً لَهُ مِنَ الِاسْتِبْذَالِ، وَإِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ جَازَ إِنْزَالُهُمْ فِيهِ. قَدْ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِمْ. وَلَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَنْ لَمْ يَرْجُ إِسْلَامَهُمْ إِلَى إِنْزَالِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ مَا يَنْزِلُونَ فِيهِ، مُسْتَكِنِّينَ فِيهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ جَازَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَنْ يَنْزِلُوا: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِيَ النَّضِيرِ مِنْ ضَرُورَةٍ حَتَّى أَمَرَ بِهِمْ، فَبِيعُوا. وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ إِلَى سَارِيَةٍ فِي مَسْجِدِهِ. فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِذْنُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُقَامٍ أَوِ اجْتِيَازٍ، فَإِنْ كَانَ لِمُقَامٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَزِيدُ عَلَى مُقَامِ السَّفَرِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِيهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي الدِّينِ أَوْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِاجْتِيَازٍ أَوْ لُبْثٍ يَسِيرٍ نُظِرَ فِي الْمَسْجِدِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ: لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِذْنُهُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا أُبِيحَ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مِنْ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ فِيهَا أَئِمَّتُهَا بِغَيْرِ إِذَنِ السُّلْطَانِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِذَنُ السُّلْطَانِ فِي دُخُولِهِ. وَفِي مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كُلٌّ مَنْ صَحَّ أَمَانُهُ لِمُشْرِكٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، صَحَّ إِذْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ: لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ أَغْلَظُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذْنُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

.فصل: [في تَعْلِيمِهِمُ الْقُرْآنَ]:

فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْقُرْآنَ أهل الذمة، فَيَجُوزُ بِهِ إِذَا رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إِذَا خِيفَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِ. قَدْ سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- أُخْتَهُ تَقْرَأُ سُورَةَ طه فَأَسْلَمَ.
وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِذَا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ كَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَلْبِي. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّمِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ إِنْ رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، وَإِنْ خِيفَ اعْتِرَاضُهُمْ وَجَرْحُهُمْ فِيهِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ، وَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ تَعَلُّمِهِ: لِأَنَّهُ فِي اسْتِقَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ بِهِ تَطَاوُلًا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَعَانُوا بِهِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَأَشْبَهَ عِلْمَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ صَانَ كِتَابَهُ عَنْ قَدْحٍ بِدَلِيلٍ، وَاعْتِرَاضٍ بِحُجَّةٍ.

.مسألة: [لَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا وَلَا يُطْعِمُوهُ خِنْزِيرًا]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا وَلَا يُطْعِمُوهُ خِنْزِيرًا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكْرِهُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ التَّبَعَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ، فَيُعَزَّرُوا سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِمْ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَلَا يَنْتَقِضْ بِهِ الْعَهْدُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَفِي انْتِقَاضِهِ بِهِ إِنْ شُرِطَ وَجْهَانِ: وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْلِبَهُمُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ كَرْهًا، فَيَشْرَبَ خَمْرَهُمْ، وَيَأْكُلَ خِنْزِيرَهُمْ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ، وَيُعَزَّرُ لِأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، وَيُعَزَّرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، فِيمَا شَرِبَهُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلَهُ مِنَ الْخِنْزِيرِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْرِضُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَيَقْبَلُهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيبٍ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُعَزَّرُ فِي حَقِّهِمْ، وَيُعَزَّرُ الذِّمِّيُّ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَهْدِهِمْ، وَلَا يُعَزَّرُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُ بِطَلَبِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَّا أَنَّ تَعْزِيرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِعَرْضِهِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ فِي إِجَابَتِهِمْ، وَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي حَدِّ الْمُسْلِمِ وَتَعْزِيرِهِ.

.مسألة: [إِنْ كَانُوا فِي قَرْيَةٍ يَمْلِكُونَهَا مُنْفَرِدِينَ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانُوا فِي قَرْيَةٍ يَمْلِكُونَهَا مُنْفَرِدِينَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ فِي خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَرَفْعِ بُنْيَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِمِصْرِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةٌ أَوْ بِنَاءٌ طَائِلٌ لِبِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ هَدْمُ ذَلِكَ، وَتُرِكُوا عَلَى مَا وُجِدُوا، وَمُنِعُوا إِحْدَاثَ مِثْلِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْمِصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْيَوْهُ أَوْ فَتَحُوهُ عَنْوَةً، وَشُرِطَ هَذَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانُوا فَتَحُوا بِلَادَهُمْ عَلَى صُلْحٍ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ ذَلِكَ خُلُّوا وَإِيَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ يُحْدِثُوا فِيهِ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، إِنْ تَفَرَّدُوا بِمِلْكِهِ وَسُكْنَاهُ مِنَ الْقُرَى وَالْبِلَادِ هل يعترض عليهم إظهار الخمر لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِي إِظْهَارِ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ فِيهِ، وَضَرْبِ نَوَاقِيسِهِمْ، وَابْتِنَاءِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَتَعْلِيَةِ مَنَازِلِهِمْ، وَتَرْكِ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ وَلِأَنَّهَا زَادُهُمْ، فَأَشْبَهَتْ دَوَاخِلَ مَنَازِلِهِمْ، فَأَمَّا رُكُوبُهُمُ الْخَيْلَ فِيهَا فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا كَمَا لَمْ يُمْنَعُوا مِمَّا سِوَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا: لِأَنَّهَا رُبَّمَا صَارَتْ قُوَّةً لَهُمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، فَخَالَفَتْ بِذَلِكَ مَا سِوَاهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَصُلْحًا مَا قَدْ مَضَى شَرْحُهُ.

.مسألة: يَكْتُبُ الْإِمَامُ أَسْمَاءَهُمْ وَحُلَاهُمْ فِي دِيوَانٍ وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ عُرَفَاءَ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ أَسْمَاءَهُمْ وَحُلَاهُمْ فِي دِيوَانٍ أهل الذمة، وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ عُرَفَاءَ لَا يَبْلُغُ مَوْلُودٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا رَفَعَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَوْضُوعٌ لِلتَّأْبِيدِ، فَاحْتَاجَ إِلَى دِيوَانٍ يُفْرَدُ لَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ دِيوَانَ الْجَوَالِي: لِأَنَّهُمْ أُجْلُوا عَنِ الْحِجَازِ، فَسُمُّوا جَوَالِيَ، وَهَذَا الدِّيوَانُ مَوْضُوعٌ فِيهِمْ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ، وَمَبْلَغُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ، وَمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِيُحْمَلُوا عَلَيْهَا فِيمَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَذِكْرُ الْإِمَامِ احْتِيَاطٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ فِي نَسَبِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَصِنَاعَتِهِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَذْكُرَ حِلْيَةَ بَدَنِهِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْكِبَرِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ، وَالسُّمْرَةِ، وَالسَّوَادِ، وَحِلْيَةَ الْوَجْهِ وَالْأَعْضَاءِ، لِيَتَمَيَّزَ إِنْ وَافَقَ اسْمٌ اسْمًا، وَيَذْكُرَ فِيهِ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ دُونَ الْإِنَاثِ، لِاعْتِبَارِ الْجِزْيَةِ بِبُلُوغِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَإِنْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ مَوْلُودٌ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ أَسْقَطَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ مَا أَدَّوْهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، لِيُعْلَمَ بِهِ مَا بَقِيَ وَمَا اسْتُوْفِيَ، وَيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْأَدَاءِ بَرَاءَةً يَكْتُبُ اسْمَ الْمُؤَدِّي، وَنَسَبَهُ، وَحِلْيَتَهُ، لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الْجِزْيَةِ مُعْتَبَرًا بِالْمُحَرَّمِ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ السَّنَةُ الْهِلَالِيَّةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ.

.فصل: [في تعريف الإمام عليهم العرفاء]:

وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ دِيوَانِهِمْ عَرَّفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمُ الْعُرَفَاءَ، وَضَمَّ إِلَى كُلِّ عَرِّيفٍ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ أَثْبَتَ مَعَهُمُ اسْمَ عَرِّيفِهِمْ فِي الدِّيوَانِ، وَيَكُونُوا عَدَدًا يَضْبُطُهُمُ الْعَرِّيفُ الْوَاحِدُ فِيمَا نُدِبَ لَهُ.
وَالْعَرِّيفُ مَنْدُوبٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ وُلِدَ فِيهِمْ، فَيُثْبِتَهُ، وَحَالَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، فَيُسْقِطَهُ، وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَرِيبٍ، وَمِنْ مُسَافِرٍ عَنْهُمْ، وَمُقِيمٍ، وَيُثْبِتُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمًا يُقْبَلُ خَبَرُهُ.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ دَخَلَ فِي جِزْيَتِهِمْ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا، فَيُثْبِتَهُ، وَالدَّاخِلُ فِيهَا: الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ، وَالْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ، وَالْعَبْدُ إِذَا عَتَقَ. وَالْخَارِجُ مِنْهَا: مَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، أَوِ افْتَقَرَ بَعْدَ غِنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ، وَيَعْرِفَ حَالَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْضِرَهُمْ إِذَا أُرِيدُوا لِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَلِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَشْكُوا إِلَيْهِ، مَا يُنْهِيهِ عَنْهُمْ إِلَى الْإِمَامِ عَنْ حَقٍّ لَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ، أَوْ مِنْ تَعَدِّي مُسْلِمٍ عَلَيْهِمْ يَكُفُّ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ ذِمِّيًّا مِنْهُمْ: لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْهُمْ، لَا يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِهِ.

.مسألة: [في وجوب إمضاء العهد على الإمام وعلى من بعده من الأئمة]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ صُلْحُهُمْ بَعَثَ فِي كُلِّ بِلَادٍ، فَجُمِعَ الْبَالِغُونَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُسْأَلُونَ عَنْ صُلْحِهِمْ: فَمَنْ أَقَرَّ بِأَقَلِّ الْجِزْيَةِ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى جِزْيَةٍ وَشُرُوطٍ يَجُوزُ مِثْلُهَا أهل الذمة، وَجَبَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاءُ عَهْدِهِ، وَأَجْرَى أَهْلَ الذِّمَّةِ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ: لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ. فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِهِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ شُرُوطًا يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا أَبْطَلَ الْإِمَامُ بَعْدَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ مَعَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إِلَيْهِ غَيَّرَ فِي الدِّيوَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّلْحِ الْفَاسِدِ، وَأَثْبَتَ فِيهِ مَا اسْتَأْنَفَهُ مِنَ الصُّلْحِ الْجَائِزِ. وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَيْهِ نَقَضَ عَهْدَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ، وَعَادُوا حَرْبًا.